لن أقولَ أُفًّا... ولوالدي كل الإحسان

لا شكَّ أن العائلة هي عنصر من عناصر الأمان النفسي والإجتماعي، وإن تداعى فرد منها تداعت بقية الأفراد، وهي كعقد اللؤلؤ المتماسك جماله في تماسكه.
ترتكز العائلة بشكل أساسي على أعمدة مكونة من الأب والأم. عندما نفقد ركنًا من هذه الأركان، أحيانًا تتصدع الأسرة، وسرعان ما تتماسك لتعي الحدث الأليم، وتخرج منه صابرة محتسبة.
إلى من كان لقبه "الزئبق" أي "الزيبق".
إلى أبي.


أطلَّ حُزيران هذِهِ المرة دونَ حضورك، يحمل في طياته بؤسًا وتعبًا وغيابًا باردًا، يتخلله الكثير من القساوة والحزن والصمت.
لو كنتُ أعلم أنها الليلة الأخيرة لما فارقتك لحظة.
لو كنتُ أعلم أن الموت اختارك بلحظات غيابي لما برحت مكاني...
كنتُ استعطفته ولو قليلاً، فهناك أشياء ومكنونات كان لا بد من قولها، والاعتراف بها.
كان هناك حديث عن ذكريات مرَّت كنا فيها سعداء... لم نحسب للحظة الفراق المميت.
كنتُ سأُخبرك عندما كنتُ طفلة كم كنتُ أهاب حضورك، وكنت أمشي على رؤوس أقدامي الصغيرة لئلا تصحو ويتعكر مزاجك.
هل تعلم يا أبي أنني أُصبتُ بشيخوخة العمر عند افتقادك.
لكأنك كنت تمسك القمر بيدٍ والشمس بيدٍ أخرى كي تنير درب العتمة.
كان لزامًا عليَّ أن أكتب عنك
أن أروي سيرتك مثل الأبطال العظماء.
هكذا أراك ماردًا ومكابرًا، مشاكسًا وعنيدًا، وعند النظر إلى عينيك أراك طفلاً حنونًا.
كنتَ شديد الدقة، وكثير القلق والخوف بشأن مستقبلٍ واعد أو ربما مفقود... يراهن على إحساسه بكل تفصيل وصدق، وأيضًا يراهن على معطياته في تحليل الأمور والأشياء من وجهة نظره، والتي غالبًا ما تُصيب.
أأنت قديسٌ؟
أم نبيٌّ؟
أم عرّاف؟
كل ما كنتَ تتنبأ به كان صحيحًا،
تتفحَّص خبايا الوجوه، وتعلن إصدار الحكم بعدلٍ وانصاف.
مغامر وساخر... متطرف في السياسة كما الحب.
لعينٌ هو ذاك اليوم... كسر جناحيي، ووضع حجرًا على صدري، وأثقل همتي، وبدأتُ أحسب الوقت على غير عادة.
نعم لقد كبرت جدًا، بحيث أن الزمن بات رقمًا وهميًا أحسبه صغيرًا.
أن تفقد أباكَ كأنك تفقد جزءًا من القلب والحياة.
اليراع خانني هذه المرة، ومشاعر الفقد أنهكت قلبي.
للموت رهبة لا يعيشها إلا من فَقَدَ عزيزًا وغاليًا، وأنا فقدتُ أبي.
لقد مرَّ على وفاتك ثلاث سنوات.
كيف حالك الآن أيها العميد؟
هل ما زال قلبك الكبير يؤلمك؟ وهل ما زلت تفكر في تأمين الدواء وهمَّ دخول المشافي؟!.
كنت في كلِّ مرة تذهب لتعود،
لكنّي ما عاهدتك تخلف وعدًا وعهدًا.
القلب خانك هذه المرة وأعياه التعبَ ومرارة السنين فتوقف، ليعلن انهزامه أمام حقيقة الموت.
لا أحد مثلك وأنت الأب الذي يملك قلبان، ولم أخطئ حين كتبت لك:
"لديَّ أب قلبه قلب أم، وليس بأي أم".
كأسطورة تروى في الحكايات.
نعم رحلت... لكنك تركت عبقَ عرقك، وتركت حضورًا لا يمحيه غياب.
أُدرك أنها حالة لا بد من المرور بها، تتخبط بها مشاعر الحزن والفقد، ونصبح رهائن للتفاصيل الصغيرة، لكن الحزن والفقد عقاب كبير يا أبي.
لا أحد يعادل قيمتك، ولو عشت العمر دهرًا.
هات يدك ومررها على جبيني،
وأعد تأهيلي من نقطة الصفر، كي أتوضأ من طهر يديك.
هلا زرتني بالحلم وسألتني عن أحوالي بعد رحيلك.
أيُّ عقابٍ هذا أن لا تأتي، وأنت الحاضر دائمًا وأبدا.
أيها المتطرف في الحب حتى العبادة.
سلامًا لعينيك التي تُكتب فيهما آلاف القصائد، ولابتسامتك الجميلة التي تهزم آلاف الأشرار.
سلامًا لأيادٍ تحيي النبات بعد الممات.
سلامًا لأعظم الرجال وأطيب الآباء.
أفتقدك أبي، وأفتقد رضاكَ عند كل لقاءٍ ووداع.
لكن كيف لهذه الذاكرة الخائنة أن تتجرّأ على مسحِ كلِّ تفاصيلك، وتصرُّ على تذكيري بالمشهد الأخير.
كان عليَّ أن أتصدى لطغيانك بعدم تقبيل يديك، بل كان لزامًا عليَّ أن أتطهر بماءِ قدميك.
رحلتَ... لكنك تركت لي مبادئك التي أتعكز وأرتكز عليها في مسيرة الحياة.
أتعلم!! لم أكن أتوقع رحيلك بهذه السرعة لأنك كنت دائم التكلم عن الحب والأمل، عن الأرض والزرع، عن الغد وما بعده.
مصدرًا للأمل، كنت دائمًا تتكلم، وكأن الزمن يقف على عتبة بابك.
سميحة شعبان